هل تعيد السياسات المسبوقة لضبط المجال الديني فشل التسعينات؟
في يوم الأربعاء 20 مايو 2015 صرح صبري عبادة، وكيل وزارة الأوقاف، إن الوزارة مستعدة للاحتفالات بمولد الحسين ، وحذر السلفيين من أي محاولة للتصدي للممارسات الشيعية أثناء الاحتفالات، قائلًا: " أنتم لستم أصحاب الولاية على الدين، ولا يجب أن تتحدثوا باسمه؛ لأن مصر بها مؤسسة عريقة، وهي الأزهر الشريف". في يوم الخميس 22 أكتوبر 2015 قررت مديرية أوقاف القاهرة إغلاق ضريح الإمام الحسين بحجة من الأباطيل الشيعية التي تحدث يوم عاشوراء ، وما يمكن أن يحدث من طقوس شيعية لا أصل لها في الإسلام.
في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان الماضي، وسط آلاف المصلين بمسجد عمرو بن العاص، كان محمد جبريل، الإمام والقارئ الشهير يؤم المصلين ويقوم بالدعاء كما هي العادة هناك كل سنة، ما كان مختلفا أن دعاءه على من سماهم "الظالمين والإعلاميين الفاسدين أثار جدلا، واعتبرت وزارة الأوقاف دعاء جبريل عملاً سياسياً لا علاقة له بالدين وأن ما فعله متاجرة بعواطف الناس وبموجب الضبطية القضائية حررت محضرا رقم 4776 ضده وصرح الوزير أن جبريل لن يصلي بالناس في أي مسجد في مصر مرة أخرى. وبالرغم من عدم حصوله على تصريح للخطابة واصل الداعية محمد سعيد رسلان المحسوب على تيار السلفية المدخلية – التي ترفض الخروج على الحكام - أداء الخطب والدروس من المسجد الشرقي في أشمون بالمنوفية وكانت خطبة صلاة عيد الفطر في الأول من شوال بعنوان " الدعاء لولي الأمر " والتي كانت فيما يشبه الرد على دعاء جبريل حيث ذكر أن الدعاء على ولي الأمر من أفعال الخوارج.
يثير هذان التناقضان في سياسات الأوقاف تجاه المساجد أهمية إعادة النظر في سياسات الدولة الهادفة لما تسميه "ضبط المجال الديني" عقب الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي في أنها تحقق ما تصبو إليه ، وتبرز عدة تساؤلات هل نحن امام سياسات غير مسبوقة في ضبط المجال الديني؟، وهل نجحت السياسات السابقة لكى تنجح الحالية المكررة ؟ وكيف ساهم الصراع مع الحركات الإسلامية على احتكار المجال الديني على تشكل هذه السياسات ؟ وكيف شكل إرث عملية التحديث وإخضاع الدولة للمجال الديني إطاراً أوسع لفهم تلك السياسات؟
منح الضبطية القضائية لمفتشي المساجد، على سبيل المثال، تم وصفه بأنه يحدث "لأول مرة في التاريخ المصري". وهو الوصف الذي أطلقته مقالات صحفية عديدة على قرار وزير العدل محفوظ صابر بمنح الضبطية القضائية لمجموعة من قيادات ومفتشي الأوقاف بعد أن تلقى كشفاً من محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف، بأسماء قيادات ومفتشي الأوقاف المطلوب منحهم الضبطية القضائية. ولكن على العكس من ذلك، في يناير 1998 أصدر المستشار فاروق سيف النصر، وزير العدل الأسبق، قراراً بمنح الضبطية القضائية لعدد بلغ 435 مفتشا من مفتشى المساجد، وجاء القرار تطبيقا للقانون 238 لسنة 1996 الخاص بمنع إلقاء الخطب أو الدروس الدينية بالمساجد إلا لمن يحملون تصريحا بذلك من وزاره الأوقاف.
انتمى هذا القرار لحزمة من السياسات والقرارات اتخذتها الدولة في تسعينيات القرن الماضي تحت شعار "المواجهة الفكرية للإرهاب وتجفيف منابعه”. وبالطبع ناب وزارة الأوقاف النصيب الأكبر من السياسات والقرارات باعتبارها الوزارة المسئولة قانونا عن تنظيم المجال الديني الذي مثل ساحة ملتهبة للصراع مع الحركات الإسلامية. النظر لسياسات التسعينات ومقارنتها قد يكون مفيدا في التساؤل إن كانت استعادة هذه "السياسات المسبوقة" قد تعيد فشل التسعينات في مواجهة الحركة الإسلامية التي تم قمعها أمنيا ومطاردتها لكنها عادت بدعم شعبي كبير لتصل إلى السلطة فيما بعد.
السيطرة على المساجد (السياسات الرسمية)
شرعت الوزارة في التسعينات في اتخاذ عدة اجراءات كان منها زيادة ميزانية وزارة الأوقاف، والمضي في ضم المساجد إليها، و زيادة عدد الأئمة. ففي ندوة بعنوان "الإنجازات الدينية في عهد مبارك " بمناسبه مرور 15 عاماً على حكم مبارك ، صرح محمود حمدي زقزوق، وزير الأوقاف الأسبق، أن ميزانية الوزارة قد قفزت من 32 مليوناً في العام المالي 1981 – 1982 وهو العام الأول لحكم مبارك إلى 550 مليوناً في العام المالي 1996- 1997، وأن الوزارة استطاعت ضم ما يقرب من 27 ألف مسجد بدلا من 7 آلاف مسجد، وأنه بنهاية عام 2000 ستكون الوزارة قد تمكنت من ضم جميع مساجد الجمهورية، وأشار الوزير إلى زيادة الأئمة إلى 23 ألف إمام بدل من 7 آلاف إمام. وحاليا ازدادت أيضا ميزانيه الأوقاف من 5.9 مليار جنية في العام المالي 2013-2014 إلى 8.34 مليار في العام المالي 2015-2016 إجمالي الإنفاق على ( ديوان عام وزارة الأوقاف والمديريات الإقليمية و نشر الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية)، وأصدر وزير الأوقاف الحالي محمد مختار جمعة القرار رقم 64 لسنه 2014 لتأكيد ضم جميع المساجد بالجمهورية إلى وزارة الأوقاف، وقد زادت الوزارة عدد خطباء المكافأة ( خطيب غير معيّن في الوزارة يتم مكافأته مقابل كل خطبة) من 21 ألفا إلى 38 ألفا بحيث أصبح إجمالي عدد الأئمة 96 ألف إمام.
في التسعينات أعلنت الوزارة عزمها السيطرة التامة على المنابر في إطار" مواجهة الأوقاف لأي عابث بمنابرها من متطرفي الفكر" على حسب وصف الوزير زقزوق، وفى اجتماعه مع أعضاء اللجنة الدينية والأوقاف بمجلس الشعب تحدث الوزير أنه رغم صدور القانون رقم 89 لسنه 1964 الذي يتضمن شروط من يعتلون المنابر فإن منابر المساجد اعتلاها أناس متطرفو الفكر، وأنه قرر مواجهه الفكر المتطرف حمايه للمصلحة الدينية والقومية. وعلى إثر هذا النقاش أصدر البرلمان القانون رقم 238 لسنة 1996 بتعديل المادة 10 من قانون تنظيم وزارة الأوقاف رقم 272 لسنه 1959 والذي أعطى لوزير الأوقاف سلطة إصدار قرار بالشروط الواجب توافرها في الأشخاص الذين يحق لهم ممارسة إلقاء الخطب أو الدروس الدينية، وبالإجراءات اللازم اتخاذها للحصول على تصريح من وزاره الأوقاف. وقد أصدر وزير الأوقاف القرار الوزاري رقم 11 لسنة 1997 بهذه الشروط والإجراءات، ويعاقب القانون كل من يمارس إلقاء الخطب أو الدروس الدينية بغير مقتض، بالحبس مدة لا تتجاوز شهرا أو بغرامه لا تقل عن 100 جنيه ولا تزيد عن 300 جنيه، أو بكليهما ، ولوزير العدل بالاتفاق مع وزير الأوقاف، منح الضبطية القضائية لمفتشي المساجد، وقد صدر قرار وزير العدل بمنح الضبطية كما تقدم ذكره.
في المقابل أيضاً وتحت شعار" تطهير المنابر" أصدر الوزير الحالي محمد مختار جمعة القرار رقم 361 لسنة 2013 بإلغاء تصاريح الخطابة السابقة الصادرة من الأوقاف لخطباء المكافأة غير الأزهريين، وأنه لن يعتد بأي تصريح خطابة سابق للأزهريين ما لم يجدد خلال 3 أشهر، وجرى توحيد موضوع خطبة الجمعة. وأصدر بعدها الرئيس عدلي منصور القانون رقم 51 لسنة 2014 الذى لم يختلف عن القانون 238 لسنة 1996 سوى في تشديد العقوبة، حيث يعاقب بالحبس مده لا تقل عن 3 أشهر ولا تزيد عن سنة وغرامة لا تقل عن 20 ألفاً ولا تزيد عن 50 ألفاً أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من يمارس الخطب أو الدروس الدينية بالمساجد بدون تصريح أو ترخيص.
و حظر القانون مرة أخرى على غير المعينين بوزارة الأوقاف والوعاظ بالأزهر الشريف ممارسة الخطابة، وأعطى لوزير الأوقاف مجددا حق إصدار تصاريح لغيرهم بممارسه الخطابة والدروس الدينية بالمساجد وفقا للشروط والإجراءات التي يراها، وأعاد القانون مجددا النص على أنه لوزير العدل بالاتفاق مع وزير الأوقاف سلطة إصدار الضبطية القضائية لصالح بعض العاملين المتخصصين بوزارة الأوقاف.
السيطرة على المساجد (السياسات غير الرسمية)
بينما تبدو دائما السياسات الرسمية المعلنة لوزارة الأوقاف تجاه السيطرة على المنابر شديدة الصرامة إلا أنها لم تكن كذلك حين تطبيقها على أرض الواقع. بالطبع لم يكن العدد الذي يبلغ 435 من مفتشي الأوقاف كافيا لمراقبة جميع مساجد الجمهورية، الأمر الذي اقتضى قيام الأجهزة الأمنية بهذا الدور، وبالتحديد جهاز أمن الدولة، فكانت التقارير الأمنية هي المحرك الوحيد لوزارة الأوقاف لاستخدام الضبطية. وتشير إحدى الوثائق المسربة من جهاز أمن الدولة إلى رصد الجهاز بعض العناصر المتطرفة المنتسبة لجماعة الإخوان التي تقوم باعتلاء المنابر وإلقاء الخطب بهدف استثارة المواطنين وفى إطار الحد من هذه الظاهرة قد جرى التنسيق مع المسئولين بوزارة الأوقاف لتفعيل صفة الضبطية القضائية الممنوحة لمفتشي المساجد على حسب وصف الوثيقة، ونظراً لأزمة الشرعية السياسية التى عانى ومازال يعانى منها النظام وعدم كفاية أئمة الأوقاف بالنسبة لعدد المساجد وضعف شعبيتهم نتيجة التصاق الأوقاف والأزهر طوال الوقت بالسلطة السياسية وضعف تجربة معاهد إعداد الدعاة التي قدمتها وزارة الأوقاف، ولضمان الهيمنة على المجال الديني شديد التنوع في مصر ولمواجهة بعض التيارات الإسلامية المعارضة لجأت الأجهزة الأمنية إلى تفاهمات مع بعض التيارات الإسلامية التي لا تنتقد السلطة السياسية في مقابل السماح لها بالتواجد داخل المساجد وعدم التضييق على أنشطتها بل وتشجيعها أحياناً بصور غير مباشرة من قبل السلطة. وتشير وثيقة أخرى إلى متابعة أجهزة الأمن لوجود تيار سلفي يسمى التيار المدخلي ينتسب إلى ربيع بن هادى عمير المدخلي، الداعية السعودي، ويرى أن "رفض الخروج على الحاكم" واحد من أهم قناعاتهم حسب وصف التقرير الذي خلص إلى ضرورة الاستفادة منهم في مواجهة "التيارات الدينية المتشددة" على حسب وصف التقرير أيضا.
وكما كان 435 مفتشا من الأوقاف لديهم حق الضبطية القضائية غير كافين لمراقبة مساجد الجمهورية في عام 1998 فإن عدد 100 مفتش لن يكون كافياً لمراقبة العدد الأكبر من المساجد في الجمهورية في 2014 ، وبالتالي استمر ملف متابعة المساجد مع الأجهزة الأمنية. وعلى عكس الموقف الصارم التي اتخذته الوزارة تجاه الدعوة السلفية وشيوخها ونشاطهم الدعوي عقب الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسى، إلا أن نفس الأسباب أدت إلى أن تتغاضى الأجهزة الأمنية نسبيا عن صعود السلفيين من الدعوة السلفية والسلفية المدخلية – الموالين للنظام- إلى المنابر، رغم الإدانة الرسمية لها من وزارة الأوقاف. فواصل ياسر برهامي (قبل حصوله على تصريح محدود للخطابة من الأوقاف ) وأحمد فريد نائب رئيس الدعوة السلفية، ومحمد عبد الفتاح أبو ادريس إلقاء خطب الجمعة في الإسكندرية، وكذلك عادل نصر المتحدث باسم الدعوة السلفية واصل إلقاء الخطبة في محافظة الفيوم، وسعيد العفاني القيادي بالدعوة في بني سويف، وقال مصدر مسؤول بوزارة الأوقاف إن الوزارة لم تعط أي تصريح لأعضاء أو قيادات الدعوة السلفية لصعود المنابر، إلا أنه عاد واستدرك بأن صعود شيوخ السلفية يأتي في إطار تكثيف الجهود الدعوية على كافة الأصعدة، لتبيان مخالفة فكر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لمختلف التيارات الإسلامية ومن بينها السلفية". وأضاف أن الوزارة "غضت الطرف عن صعود هؤلاء الشيوخ رغم علمها بالأمر".
ورغم حصول ياسر برهامي ويونس مخيون على تصاريح خطابة محدودة واستمرار الشد والجذب بين الوزارة والدعوة السلفية على المستوى الرسمي، إلا أن الأمر يقارب اتكاء الدولة والأجهزة الأمنية في التسعينات على تحالف مع تيارات إسلامية سلفية تدعم شرعية النظام ضد التيارات المناوئة له فيما يمكن أن نطلق عليه إدارة اللاشرعيات لصالح السلطوية حيث تتغاضى الدولة عن الممارسات الدعوية خارج إطار القانون في مقابل الولاء والدعم السياسي.
المواجهة الفكرية (الأوقاف كجهاز أيديولوجي):
لم تقتصر سياسات الأوقاف في التسعينيات على المساجد بل امتدت خارجها، ولم تقتصر على مواجهة ما تعتبره “الأفكار الدينية المتطرفة” ولكن أيضا مواجهة “أفكار وافدة من الغرب”.
وقامت الوزارة بالتنسيق مع وزارة الثقافة والمجلس الأعلى للشباب والرياضة ( لم تكن قد أصبحت بعد وزارة للشباب والرياضة) والمجالس المحلية، وطورت نموذج القوافل الدعوية، والذي ينقسم إلى أنواع منها المعسكرات الشبابية بالمحافظات الساحلية بالتنسيق مع المجلس، حيث يقيم عدد من الدعاة مع الشباب يعملون على توجيهم وتوعيتهم توعية دينية سليمة وتوضيح مخاطر الفكر المتطرف، وهناك قوافل تتعاون فيها الوزارة بدعاتها مع أساتذة من جامعه الأزهر و هيئه قصور الثقافة لتنظيم ندوات ومؤتمرات تمتد أحياناً لأكثر من يوم تهدف للتوعية ضد مخاطر الإرهاب والتطرف و"التصدي لعبادة الشيطان الوافدة من الغرب والأفكار التي لا تناسب القيم المصرية".
وكثفت الأوقاف أيضا من إصداراتها لمواجهة أفكار التيارات الإسلامية، فنشرت كتاب "الفكر المتطرف في ميزان الإسلام" والذي تم توزيعه على أئمة المساجد وشباب الجامعات، كما أصدرت سلسله كتب بعنوان "هذا هو الإسلام" لشرح ما تعتبره الوزارة الإسلام الصحيح. حالياً لم تختلف السياسات كثيراً، يمكن القول إنه تم استبدال مواجهه أفكار "عبدة الشيطان" والأفكار الغربي الوافدة بمواجهه الملحدين، و استمر التنسيق بين الأوقاف ووزارات الثقافة والشباب.
كما حدث سابقاً تتعاون وزارات الأوقاف والشباب والثقافة لمواجهة "التطرف". حيث وقعت وزارة الأوقاف مذكرة تفاهم مع وزارة الثقافة لتطوير العمل بينهم في ظل التحديات الراهنة، وأقرت وزارة الأوقاف خطة دعوية جديدة تتمثل في تفعيل الصالون الثقافي الأسبوعي للوزارة، وتفعيل لجنة القضايا المعاصرة بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وأقرت لجنه أخرى لتطوير الخطاب الديني، وقررت اللجنة أيضا بدء عمل منتدى السماحة والوسطية بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، واتفقت اللجنة على البدء فوراً في إعداد مختارات من كتب التراث تصل للقارئ بسهولة ويسر وفي حدود ما يترتب عليه عمل أو تطبيق القارئ البسيط وتتجنب القضايا الجدلية. وأصدرت أيضا وزارة الأوقاف وثيقة لتجديد الخطاب الديني وذلك عقب تنظيمها لمؤتمر تجديد الخطاب الديني والذي تم عبر الدعوة الشهيرة التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي لتجديد الخطاب الديني. أما على صعيد مواجهه الإلحاد فقد أعلن وزير الأوقاف ووزير الشباب والرياضة عن إطلاق حملة قومية لمكافحة ظاهرة انتشار الإلحاد بين الشباب، وفى مقالته "صناعة الإلحاد والإرهاب" شدد وزير الأوقاف على خطورة الإلحاد والإرهاب ورأى أن ما تفشل في تحقيقه تلك اليد الخفية على حد وصفه من خلال الإرهاب تحققه من خلال دعم" تلك الجماعات الملحدة" على حد وصفه أيضا .
الانتصار العسكري والهزيمة الأيديولوجية:
بعد هذه المقارنة السريعة بين السياسات والإجراءات التي انتهجتها وزارة الأوقاف في التسعينيات واليوم نستطيع أن ندرك أننا لسنا أمام تغييرات جوهرية، فسياسات وإجراءات الأوقاف في التسعينات لم تكن فقط غير ديمقراطية وإنما فشلت أيضا في المواجهة الفكرية والأيديولوجية مع الإسلاميين، أو بحسب وصف سكوت هيبارد لحصاد مواجهه الدولة للإسلاميين في التسعينات: " انتصار عسكري وهزيمة أيديولوجية" حيث انتصرت الدولة عسكرياً وأمنياً على الإسلاميين بينما فشلت سياسات أجهزة الدولة الأيديولوجية (الأوقاف والثقافة والإعلام والشباب والتعليم) في المواجهة الفكرية، فما فشلت فيه الأوقاف في التسعينيات تتصور أنه سينجح اليوم ، وهل كنا سنصل اليوم لو أن السياسات السابقة نجحت، فاليوم هو خير دليل على فشل ما سبق. لقد تجلي الفشل الأيديولوجي في رؤية الدولة أن أنسب طريقة لمواجهة الأصولية الإسلامية وتصوراتها تجاه المجال الديني هي أن تتبنى الدولة نسخة معدلة من هذه التصورات فبينما تحذر السلفيين من محاولة للتصدي للممارسات الشيعية أثناء الاحتفالات تغلق ضريح الحسين أمام الاحتفالات منعاً للأباطيل الشيعية، وبينما تصفهم أنهم ليسوا أصحاب الولاية (السلفيين) على الدين تقر الدولة بالولاية على الدين ولكن لصالح الأزهر والأوقاف أي لصالح الدولة.
إرث التحديث الدولة والمجال الديني:
لم تكن سياسات الأوقاف غير ديمقراطية وفاشلة في مواجهة الإسلاميين فقط، إنما اشارت أيضا الى ما هو أخطر من ذلك، فبينما كانت وزارة الأوقاف تدعي أنها بسياستها النسختين (التسعينية والحالية ) تواجه الإرهاب حمايةً للدولة الوطنية كانت سياستها وتصريحات السادة وزرائها سواء ( محمد حمدي زقزوق ) الذى قال " إن الدعوة الإسلامية هي مسئوليه وزارة الأوقاف وحدها، وهي المسئولة الوحيدة عنها، وهى ليست بدعة في ذلك، فهي مثلها مثل وزارة الصحة المسئولة عن صحه الشعب ووزارة التموين المسئولة عن غذائه”، أو التصريح السابق لصبري عبادة، تشير وتؤكد على افتراض" الدولة الإمام" حيث انتقلت وظائف الخليفة المسلم، التي منها حق الولاية على الشئون الدينية للمسلمين وعلى مساجدهم وعلى خطبائهم، إلى الدولة الوطنية ومنها إلى وزاره الأوقاف التي تمارس هذا الدور، ساهم في هذا إرث عملية التحديث كونها عملية كانت تستهدف تحديث النظام العثماني انطلاقا من ولاية القاهرة، ومع انتهاء الصراع بين محمد علي والخليفة العثماني مع معاهدة لندن أصبح على محمد علي أن يظل تابعا للدولة العثمانية تسري على ولايته قوانينها ومعاهداتها وبالتالي ظلت ظلال دولة الخلافة حاكمة لطبيعة التحديث وهذا الافتراض يمثل أحد أهم التناقضات الضاربة بعمق في جذور نموذج الدولة الوطنية المصرية والمعيقة لأى مشروع يهدف إلى دمقرطة السياسات الدينية في مصر، إذ تمثل الدولة المصرية الصيغة الحداثية لدولة الخلافة الإسلامية، حيث استوعبت الدولة الحديثة الشريعة الإسلامية ووظفتها لإنجاز مشروع المراقبة بالمعنى الفوكوي، حيث مثلت المراقبة حجر الزاوية في مشروع الدولة الحديثة، وهدفت إلى إخضاع المجال الديني لسلطة الدولة الحديثة المتشكلة من خلال تمدد البيروقراطية، وكان توظيف الشريعة محاولة منها لعلاج أزمة الشرعية، تلك الأزمة البنيوية التي تعانىي منها الدولة الحديثة ونرى تكثيفاً حقيقياً في استخدامها كلما ازدادت أزمة الشرعية بوجود تهديد من معارضة سياسية أو تهديد مسلح، فظلت الخلافة الإسلامية (دولة الشريعة ) تلقي بظلالها على كل ما ينظم الشأن الديني في مصر.
هوامش
1 .الشروق، "الأوقاف لـ«السلفيين»: لستم أصحاب الولاية على الدين.. ولن نقبل بالنعرات الكذابة" ، 20 مايو 2015
2 . أوقاف اون لاين ، " الأوقاف تقرر غلق ضريح الإمام الحسين حتى يوم السبت منعاً للأباطيل الشيعية التي تحدث يوم عاشوراء" 22 أكتوبر 2015
3 . أوقاف اون لاين، "الاوقاف تحرر محضرا لمحمد جبريل بموجب الضبطية القضائية وتلحق احمد عيسى المعصراوي وأحمد عامر به في المنع من أي عمل بالمساجد" 15 يوليو 2015
4. مقال " شرطة المؤسسة الدينية " , فهمى هويدي , الشروق , 17 نوفمبر 2014
5. الأهرام "بعد منح الضبطية القضائية لـ 100 مفتش بالأوقاف حملات تفتيشية على المساجد لمواجهة التطرف" ، 21 أكتوبر 2014
6. الأهرام " منح الضبطية القضائية ل 435 من مفتشى المساجد ", صفحة 12 , 18 يناير 1998
7. الأهرام " جهود كبيرة لمبارك لدعم العمل الإسلامي وتحويل المساجد لمراكز اجتماعية ، صفحة 12 ، 26 نوفمبر 1996
8. الجريدة الرسمية ( الوقائع المصرية ) - 10 مارس 2014
9. مقال " الدولة المصرية والمجال الديني " ، جورج فهمى ، مركز كارنيغى للشرق الأوسط
10. الأهرام " الجبهة المرفوضة " ، صفحة 12 ، 27 نوفمبر 1996
11.الجريدة الرسمية ( الوقائع المصرية ) - العدد الأول ( تابع ) في 2 يناير سنة 1997
12. الجريدة الرسمية ( الوقائع المصرية ) - العدد 29 في 3 فبراير سنة 1997
13.الجريدة الرسمية ( الوقائع المصرية ) - 8 ديسمبر 2013
14. الجريدة الرسمية ( الوقائع المصرية ) - العدد 23 ( تابع ) في 5 يونيو سنه 2014
15. العقلية الامنية في التعامل مع التيارات الإسلامية دراسة تحليلية "امن الدولة المصري نموذجا " ، ملحق 29 ، صفحة 141
16. الأخبار " معاهد إعداد الدعاة .. لماذا لم تحقق اهدافها ؟ التجربة نجحت في الجمعيات وفشلت في وزارة الأوقاف " ، صفحة 7، 12 سبتمبر 1997
17. العقلية الأمنية في التعامل مع التيارات الإسلامية دراسة تحليلية "أمن الدولة المصري نموذجاً" ، ملحق 22 ، صفحة 131
18.عربي 21 ، "بالرغم من إدانته رسميا أوقاف مصر تتغاضى عن صعود السلفيين للمنابر لمواجهة "داعش" ، 22 فبراير 2015
19.اليوم السابع ، ياسر برهامي يلقى أول خطبة رسمية بالإسكندرية بعد حصوله على تصريح الخطابة، 6 مارس 2015
20. الأهرام المسائي العدد الأسبوعي " القوافل الدعوية ومرحله جديدة من مواجهه التطرف "، صفحة 4 ، 5 مايو 1996.
21 . الأهرام " مصر مجتمع متدين تتواصل فيه الاديان وافكر عباده الشيطان وافدة الينا "، صفحة 12 ، 3 فبراير 1997.
22. مصراوي ، " الأوقاف تقرر البدء في تطوير الخطاب الديني طبقًا لتوجيهات السيسي" ، السبت، 03 يناير
23.مصر العربية " ننشر نص وثيقة الأوقاف لتجديد الخطاب الديني " ، الثلاثاء 26 مايو
24. الشروق " الحكومة تعلن الحرب على الإلحاد " ، الجمعة 11 يوليو 2014
25. أوقاف أونلاين ، "صناعة الإلحاد والإرهاب " ، 5 مارس 2015
26 . Scott W.Hibbard , Religious Politics & Secular state Egypt , India and
United state
27 . دراسة " لمن المنابر اليوم (تحليل سياسه الدوله فى اداره المساجد) , الباحث عمرو عزت , المبادرة المصرية للحقوق الشخصية